الكنيسة ومفهوم الوطن عند الاب متى المسكين
بقلم:د.عايدة نصيف
“رؤية فلسفية معاصرة”
ْ 3-10-2010
يقول الأب متى المسكين: “الوطن السمائي لا يلغي وجود الأوطان، والسعي نحو الوطن السمائي لا يشمل معنى إنكار الأوطان، والحنين الذي ينمو في الإنسان جسديًا نحو وطنه الأرضي لا يعطل الحنين الذي ينمو في الإنسان روحيًا نحو وطنه الأعلى “ .
نوعان من الوطن عند الأب متى المسكين، أولهما الوطن السمائى، وثانيهما الوطن الأرضي، والأول لا يزول، ولا يفنى، وبه الحياة الأبدية. ويحدد لنا الأب متى مفهوم (الحياة الأبدية) إذ قال: “لم ُتدْعَ الحياة الأبدية بالوطن الأفضل للإنسان إلا على أساس أن الحياة الأرضية فاضلة أيضًا “؛ ويعلل الأب متى المسكين ذلك بقوله: “إن الأفضل لا يمكن أن يكون أفضل إلا بسبب وجود ما هو فاضل “ .
هناك علاقة بين الوطن السمائي والوطن الأرضي علاقة تكامل إذ يرى الأب متى أنه جيد للإنسان أن يكون سليمًا معافى في كل مشاعره الجسدية الخاصة بالوطن الأرضي ليؤهَّل أن يكون أيضًا إنسانًا روحيًا سويًا ممهدًا للوطن السمائي.
وتكمن دعوة الأب متَّى التجديدية في المسيحية في التأكيد على أهمية الجانب المادي في الإنسان بارتباطه بالعالم أو الوطن الأرضي، وأيضًا أهمية الجانب الروحي المرتبط بالوطن السمائي؛ حيث إن كليهما يكمل الآخر. وفي هذه المسألة يختلف مع الاتجاه الأوغسطيني الذي يفضل الوطن السمائي، أي مدينة الله، على الوطن الأرضي، يقول أوغسطين: “إن سعادتنا وسعادة أولادنا لا تتعلق أبدًا بتلك الثروات الفانية التي نفقدها في حياتنا… ساعة الموت… إلى أيد محمولة قد تكون عدوة “ .
يميز الأب متى المسكين بين العالمين أو الوطنين السمائي والأرضي، ويرفض أن يخلط بينهما، كما يرفض التقليل من شأن واحد على حساب الآخر.
يقول الأب متى المسكين: “الوطن الأرضي ضرورة للإنسان؛ ليكون كاملاً جسديًا، كما أن الوطن السمائي ضرورة؛ ليكون كاملاً روحيًا أيضًا… إن كبت الروح الوطنية نوع من وأد الروح الإنسانية، ومحاولة توجيه الإنسان نحو وطنه السمائي على حساب احتقاره للوطن الأرضي… هو قصور في فهم النفس البشرية “ . ويختلف هنا الأب متى المسكين اختلافًا جذريًا عن اتجاه رئيسي كان موجودًا في المسيحية ألا وهو الأوغسطينية.
فيما سبق يقرر الأب متى المسكين على أهمية كل من الجانبين الجسدي والروحي للإنسان وعدم إهمال واحد من الجانبين؛ إذ ليس هناك تعارض بينهما بل تكامل؛ لأن مصدرهما واحد هو الله، وكلاهما مرتبطان بالوطن الأرضي والوطن السمائي، وأن خدمة أحدهما لا تعطل خدمة الآخر بل تعطى حياة كاملة للإنسان.
وأكد الأب متى المسكين أنه ليس من العدل والحق أن ننمي في الإنسان حنينه نحو الوطن السمائي فحسب بل نحو الوطن الأرضي كذلك؛ ليكون كاملاً، وذلك لا يتعارض مع الإنجيل، بل يتوافق معه؛ حيث إن الإنسان إذا تُرك حسب طبيعته وكلما نما روحيًا، كلما انجذب نحو الحياة الأبدية، مع احتفاظه بما يربطه بالماديات من وطنه، وأهله وأصدقائه؛ فيبني علاقة ناجحة سليمة .
فالأب متى المسكين – فيما سبق – ينادي بالوسطية أو التوسط والاعتدال، فلا يتجه الفرد إلى التفريط في علاقته لا بالوطن الأرضي ولا بالوطن السمائي، كذلك لا يتجه إلى الإفراط بل التوسط والاعتدال.
ويتضح ذلك عنده عندما يرى أن خدمة الوطن الأرضي لا تعطل خدمة الوطن السمائي، وعلى هذا فإنْ جَمَع الإنسان بين الصفات اللازمة للأولى وضَّمها إلى الثانية، فيرى الإنسانية في أعلى صفاتها كيف تخدم الله، يقول الأب متى: “كذلك فالإنسان الروحى إذا خدم وطنه فإنه يتفوق تفوقًا باهرًا بلا نزاع ويكفي أن يضع القارىء الصفات الثانية على الصفات الأولى ليرى مدى القدرة الناتجة”
جدد الأب متى المسكين الدعوة الدينية، ودعا إلى التجديد في الفكر العربي المسيحي، وهو بصدد قضية الجانب الروحي والجانب المادي عند الإنسان، الجانب الذي يرتبط بالوطن السمائي، والجانب الذي يرتبط بالوطن الأرضي. فدعوته موجهة إلى تربية الشباب على أساس عدم ترجيح جانب على الآخر باستخدام النهي والتحذير.
لأن ذلك كما يرى الأب متى المسكين ينشئ بالضرورة ضربًا من الكبت من المشكلات النفسية، والتى تؤثر بدورها على علاقات الإنسان بمجتمعه، ويصبح عنده نوع من الاغتراب، الذي يُشعره باليأس، ويجعله تائها عن الحقيقة، يقول الأب متى المسكين: “ويظل يبحث عن شيء ضائع في حياته، ولكن هيهات فلن يجده، لقد وُئدت وماتت، إنها الروح الوطنية “ .
وعرض الأب متى المسكين أهمية تنمية الروح الوطنية لدى الشباب عن طريق تنميته الروحية السليمة له من أجل خلق علاقات سليمة وناجحة ونافعة بوطنه وأهله وأصدقائه، يقول الأب متى المسكين: “والإنسان إذا تُرِكَ لطبيعته، نجد أنه كلما نما روحيًا، قوى حنينه للحياة الأبدية مع احتفاظه بعلائقه…التى تربطه… بوطنه وأهله وأصدقائه وجميع الناس سليمة ناجحة نافعة ” فالروح الوطنية عند الأب متى المسكين ترتفع بمستوى الأحداث إلى هدف أعلى وإلى سلوك وطني مخلص لمنفعة المجتمع.
عند الأب متى المسكين أن ثمة رسالة خطيرة تقع على عاتق الذين يتولون تدريس الدين للشباب؛ فدورهم يكمن في توجيه ميول الشباب وأهدافهم لخدمة الوطن الأرضي، وخدمة الله أيضًا باجتهاد، معولا على قول الرب: “أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله ” ؛ لأن أية محاولة من قبل الكنيسة للجمع بين ملكوت الله والسلطة الدنيوية من قبيل المطالبة بحقوق خاصة للاشتراك في الحكم، وللحصول على نفوذ وسيادة هو خروج عن هدف المسيحية، ولذا فمثل هذه المحاولة مرفوضة تماما؛ لأنها بمثابة تنصيب المسيح ملكًا على الأرض، يقول المسيح: “مملكتي ليست من هذا العالم ” (يوحنا 18: 36).
ونجد في تقسيم الأب متى المسكين للوطن السمائي والوطن الأرضي تشابهًا كبيرًا بينه وبين القديس أوغسطين؛ يقول القدِّيس أوغسطين: “أصل المدينتين وتقدمهما وغايتهما الحتمية إحداهما مدينة الله، والأخرى مدينة العالم “ .
قد يكون الأب متى المسكين قد قرأ مدينة الله لأوغسطين، وربما يكون ذلك التقسيم متشابها مع تقسيم الأب متى المسكين الثنائي للوطن: أرضي وسماوي إلا أن، الجديد في دعوة الأب متى المسكين هو أن الاثنين يكمل كل منهما الآخر، دون تغليب واحد على الآخر، وذلك على العكس من القدَّيس أوغسطين. ويحدد الأب متى المسكين أن (أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله)، بأن حق قيصر يبدأ وينتهي عند حدود الوطن الأرضي، وحق الله يبدأ عند حدود ملكوته الأبدي في الوطن السمائي، ولا نهاية لحق الله.
ولقد فرَّق الأب متى المسكين بين طبيعة الوطن الأرضي والوطن السمائي بتمييزه بين طبيعة العالم وطبيعة الملكوت، ويتحدث أيضًا عن فكرة السلام الأبدي الذى يعطيه الله للإنسان ولكل الناس وهو أبدى كطبيعته. يقول الأب متَّى: “العالم أول كل شيء متغير متقلقل، وبالنهاية زائل، هذا هو أساس طبيعة العالم، أما طبيعة ملكوت الله فهى ليست هكذا أبدًا. فسلامها قائم دائم أبدي “ . ومع ذلك فلا تعارض بينهما؛ فملكوت الله يبدأ بانتهاء العالم، إذن فلا تعارض بين حق الله وحق قيصر، وليس بينهما معادلة؛ حيث إن حق الوطن هو فرض يقوم به الإنسان على الأرض، ويؤدي كل عمله بشرف، وأدب، ومعرفة وشجاعة، وثبات.
أما حق الله كما يؤكد الأب متى المسكين فهو حق الروح بما لها من صفات كالوداعة، والتواضع، والمحبة، والصفح، وغيرها . إذن فكما يقول الأب متَّى بوطنين الوطن السمائي والوطن الأرضي، فعنده أيضًا حقان، حق يختص بالوطن الأرضي، والذي يعيش فيه الإنسان جسديًّا، وحق يختص بالوطن السمائي، والذي يعيش فيه الإنسان روحيًا. وأن لكل جانب مهمة يقوم بها لا تعطل الجانب الآخر، بل كلاهما مكملان بعضهما لبعض. يمكن أن نطلق على الأب متى المسكين لقب المُصلح الذي يريد تجديد فكر الإنسان بداية من الشباب، الذين هم نواة أي مجتمع، بل أساس أي مجتمع. فإذا تربى الشباب على أساس من التوازن بين الجسد والروح نتج لنا مجتمع سليم وبنَّاء.
فإذا كان الأب متى المسكين كراهب يعني بالجانب الروحي في الإنسان وببنائه بناءًا سليمًّا، فإنه كمصلح مهموم بالجانب المادي، الذي يجب بدوره التكامل مع الجانب الروحي – في الفرد الذى هو في آن واحد مواطن ومؤمن؛ لكي يستطيع التكيف مع مجتمعه، ويتفاعل فيه، وينفعل به؛ لنصل إلى مجتمع أساسه ليس فردًا واحدًا، بل مجموعة من الأفراد، كل منهم يقوم بواجبه على أكمل وجه؛ لنصل إلى مجتمع ناضج وسليم وبنَّاء