عدد المساهمات : 233 نقاط : 691 السٌّمعَة : 0 تاريخ التسجيل : 28/09/2010
موضوع: كتابات محمد حسنين هيكل الجمعة أكتوبر 01, 2010 7:21 pm
محمد حسنين هيگل يواصل الكتابة : عن المسلمين والأقباط فى مصر
محمد حسنين هيكل -
عندما يكون لدينا كاتب بحجم محمد حسنين هيكل، من حيث القدرة الهائلة على سبر أعماق الظواهر السياسية والاجتماعية، والبراعة فى استنطاق المعنى الجوهرى الرابط ما بين حوادث تبدو متباعدة، ثم استجلاء ما هو غائم فى الأفق، فإن العودة إلى إسهاماته لا تكون استعادة ثقافية وفكرية فقط، بل تلمس واجب للبحث عن نوافذ نطل منها على راهن مآزقنا لنحدد حجمها وكنهها، وبحثا عن مخارج خلاقة ومجدية من هذه المآزق، خاصة عندما تكون شديدة الإيلام والخطر فيما يخص جماعتى الأمة الواحدة.
وها هو الكاتب الرائى الكبير لا يخذلنا، فيمدنا بثاقب الرؤية فيما يقلق مصر الآن، وبرغم مرور عقد كامل على تقديمها.
«»كانت مشاعر «مكرم عبيد» تتسرب حتى وإن لم يقصد، وتَسْحَب ذيولَها على الحياة القبطية فى مصر. وكان هناك جيل جديد من المهتمين بالسياسة، وقد بدا لهم عندما اقتربوا من الساحة أن تجربة «مكرم عبيد» فصلٌ مُحَيِّرٌ، دافعٌ ورادعٌ فى نفس الوقت!
3 - بعد ثورة 1952
وعندما وقعت ثورة 23 يوليو سنة 1952 كان الخط غير المرئى مثل خطوط الطول والعرض قد نزل على الأرض خيطا أو شعرة، ثم تَحَوَّلَ إلى فاصلٍ ظاهرٍ، ثم إن هذا الفاصل تَحَوَّلَ إلى شرخٍ يزداد عُمقا باندفاع الحوادث.
كان ما تداعى وتوالى بعد الحرب العالمية الثانية قد طرح أسئلة ومشاكل وملابسات تثير القلق، ثم حدث أن جاءت الثورة بأسباب أخرى للقلق جعلت احتمال انفلاق الشرخ أكثر من احتمال التئامه كما يحدث للجروح فى الجسم الإنسانى، والأوطان فى الأصل والأساس مجتمعات إنسانية.
وكانت هناك بالتحديد ثلاثة أسباب جاءت مع الثورة أو توافقت مع قيامها: أولها: أن مجلس قيادة الثورة لم يظهر فى قائمة أعضائه «قبطى»، ومع أن هناك فارقا بين التنظيمات السياسية العلنية وبين تشكيلات العمل السياسى السرى فإن ما آلت إليه الأحوال قبل الثورة جَعَلَ من عدم وجود ضابط قبطى فى مجلس القيادة الجديدة مسألة أكبر من حجمها.
وثانيها: أنه بدا فى أول الثورة وكأن نظامها الجديد وثيق الصلة بتنظيم الإخوان المسلمين، وبالفعل فإن الإخوان حاولوا إعطاء الانطباع بأن لهم فى الثورة أكبر مما هو بادٍ على السطح، وزَكّى ذلك واقع أن بعض أعضاء مجلس الثورة اقتربوا فى مرحلة من مراحل حياتهم من جماعة الإخوان المسلمين («كمال الدين حسين» و«أنور السادات» بل و«جمال عبدالناصر» نفسه لعدة شهور).
وثالثها: أنه فى تلك اللحظة لم تكن الكنيسة القبطية فى أحسن أحوالها لأن بطريكها الأنبا «يوساب» كان يواجه أزمة داخل كنيسته نشأت من صراع بين التقليد والتجديد، وكانت الكنيسة بواقع ما طرأ خلال الحرب العالمية الثانية وبعدها قد أصبحت بأحكام الظروف وحدها فى الحياة القبطية ودون قيادة سياسية بارزة يعترف بها الكل المسلمون قبل الأقباط كما كان فى زمن «مكرم عبيد»، ولم تكن الكنيسة فى ذلك الوقت مُؤَهَّلة لهذا الدور. ومن سوء الحظ أن معظم العائلات القبطية الكبيرة قصرت نشاطها على المجال الاقتصادى والمالى مصداقا لسياسة القصر (التى فلسف لها اللورد «كرومر») وبالتالى فإن الدائرة القبطية (constituency) كانت خالية سياسيا، ليس لها نائب معتمد، أو مرشح مقبول!
ثم طرأت مضاعفات ألقت ظلالها على موقفٍ كان معقدا وزاد تعقيدا، ففى ذلك الوقت ظهر تنظيم سياسى قبطى باسم «جماعة الأمة القبطية»، وراح هذا التنظيم يضغط بمطالبه على الكنيسة كى تتخذ موقفا باسم الأقباط «يستعيد لهم حقوقهم الضائعة»، ثم كان أن تمكن أفراد من هذا التنظيم سنة 1954 من خطف البطرك القبطى الأنبا «يوساب» نفسه من قلب دار البطركية ونقله إلى دير معزول فى الصحراء، وهناك جرى إرغامه على توقيع وثيقة بالتنازل عن الكرسى البابوى والموافقة على مطالب كثيرة، وفوق ذلك فقد حملت الوثيقة فى نهايتها تحذيرا للسلطات المصرية من أى تدخل فى الموضوع لأن ذلك «شأن داخلى» لا يخصها. وانقسم الرأى العام القبطى فى الموضوع جانبين:
جانب يرى حتى وإن لم يدخل فى إطار تنظيم «جماعة الأمة القبطية» أن الأحوال القبطية كان يجب أن تحصل على عناية أكثر من الدولة حتى لا تصل الأمور إلى ما وَصَلَت إليه.
وجانب يرى أن النظام الجديد وقف يتفرج على إهانة خطف البابا من مقره البطريركى، ولو شاء لتدخل ومنع، لكنه ترك قبطيا يضرب فى قبطى ووقف هو يتفرج. ولم يكن ذلك هو الحال لكن شكل الحوادث أوحى باستنتاجاته خصوصا فى أجواء مثقلة بعوارض سبقتها.
ولقد حاول النظام الجديد (نظام 23 يوليو) أن يواجه القضية، وفى البداية فإن تمثله لها لم يكن كاملا بقدرٍ مُتَساوٍ مع أهميتها، ومن سوء الحظ أن المستشارين السياسيين الأول للنظام الجديد كانت لهم تصورات مسبقة (خصوصا «عبدالرزاق السنهورى» (باشا) رئيس مجلس الدولة وقتها، و«سليمان حافظ» (بك وكيله). وكان ظَنُّ الاثنين أنه فى أى ممارسة سياسية، وحتى بالديمقراطية المطلقة، فإنه لا أمل لأى «أقلية دينية» أن تشارك فى الحياة السياسية على مستوى يرضيها، والحل فى رأى الاثنين هو «التعويض الاقتصادى عن الغياب السياسى».
والملاحظ أن رئيس الوزراء فى بداية الثورة («على ماهر» باشا) ساند هذا الرأى (والقول به كما وَرَدَ من قبل سابق: اعتمده من الأصل اللورد «كرومر» من دار المندوب السامى البريطانى فى بداية القرن العشرين واعتمده «أحمد حسنين» باشا من القصر الملكى من بداية أربعينيات القرن نفسه) وفى بداية الخمسينيات عاد ذلك الرأى يعرض نفسه فى عصرٍ مختلف.
وبشكل ما فإن «جمال عبدالناصر» كان يشعر ولو على نحوٍ غير محدد أن هناك وضعا ما يقتضى حلا ما، وكان إحساسه التلقائى أن الدائرة القبطية تحتاج إلى نائب جديد أو مرشح مقبول يُعَوِّض الدور الخلاق الذى قام به «مكرم عبيد» فى العشرينيات والثلاثينيات فى الحياة السياسية المصرية. وكان أن وَقَعَ اختياره وبترشيح من المهندس «أحمد عبده الشرباصى» الذى كان بخبرته العملية يعرف أسرار التركيبة العائلية المصرية خصوصا فى الريف على الدكتور «كمال رمزى استينو».
وبالفعل فإن «استينو» أقبل على دوره بإخلاص، لكن المشكلة أن الرجل قضى حياته كلها «تكنوقراطى» يحاذر كل ما هو سياسى، والآن وقد تجاوز به العمر سِن الشباب فإن إعادة تأهيله سياسيا كانت صعبة. والحقيقة أن الرجل حاول وبصدق لكن المشكلة أن الدائرة القبطية بعموم، والعائلات القبطية بخصوص نظرت إلى «استينو» باعتباره مبعوث النظام الجديد إليها يسمع وينقل، يستجلى ويوضح، وذلك وضع آخر يختلف عن وضع «مكرم عبيد» الذى استطاع بفَهْمٍ عميقٍ لروح الحضارة العربية أن يبادر ويقول، وأن يؤثر ويحرك، وهو فى نفس الوقت قيادة سياسية وطنية جامعة.
وإنصافا ل «كمال رمزى استينو» فإنه وَجَدَ أن عددا من العائلات القبطية الكبيرة والتى قام نفوذها على مسافة قريبة من سياسات «كرومر» و«أحمد حسنين» قد تَفَرنَجَت بتراكم الثروة مع بروز أنماط جديدة من الحياة الاجتماعية فى النصف الأول من القرن العشرين. وفى حين أن رجلا مثل «مكرم عبيد» كان يحفظ القرآن عن ظَهرِ قلب، فقد كان المشكوك فيه أن بعضا من هذه العائلات القبطية الكبيرة تنطق فى حياتها كل يوم داخل بيوتها بجُملة واحدة سليمة من اللغة العربية.
وفى ظروف اشتداد الحرب الباردة فقد تأكد أن السياسة الأمريكية ابتداء من عصر الرئيس «أيزنهاور» راحت تعتمد سياسة خارجية يلعب الدين فيها دورا بارزا، وكان الظن أن الدين قبل الجيوش، وقبل الأدب، وقبل الفن هو القادر بالطبيعة على مواجهة الماركسية «المُلحِدة» فى الدول التى اعتمدتها (الاتحاد السوفييتى وأوروبا الشرقية كلها ثم الصين ومحيطها فيما بعد).
وكان «جون فوستر دالاس» وزير خارجية «أيزنهاور» قد وضع سياستين متوازيتين اعتقد أنه لا تعارض بينهما، وآمن أن كل سياسة منهما قادرة فى مجالها: السياسة الأولى هى إنشاء حلف إسلامى يضم كل الدول التى تعتنق الإسلام (وتحارب الالحاد) فى حلف عسكرى تقوده الولايات المتحدة.
وقد سمعت بنفسى فى واشنطن أواخر سنة 1952 شرحا مُفَصَّلا للفكرة قدمه لى الجنرال «أولمستيد» رئيس برامج المساعدات الخارجية فى وزارة الدفاع البنتاجون، والخُلاصة فيه أن الولايات المتحدة ترى ثلاث دول محورية يلزم أن يرتكز عليها هذا الحلف لتكتمل له فاعليته: باكستان وهى بالتعداد أكبر بُعد إسلامى (وقتها).
تركيا وهى بالسلاح أقوى بلد إسلامى (وقتها أيضا) مصر وهى بالأزهر أهَم مرجعية إسلامية (وقتها كذلك).
ولعل اهتمام الجنرال «أولمستيد» وغيره بزيارتى إلى واشنطن تلك الأيام كان هدفه أن أنقل الفكرة إلى «جمال عبدالناصر» باقتناع يؤكد ما ينقله إليه سفراء الولايات المتحدة لديه رسميا عن فكرة الحلف واحتمالات تنفيذها (وكان «جمال عبدالناصر» طول الوقت يراقب بحرص، ويتابع بحَذَر !).
وكانت السياسة الثانية وقد تبناها «جون فوستر دالاس» بنفسه وعمله ووجوده المباشر هى إنشاء ما سمى باسم «مجلس الكنائس العالمى»، وكان الغرض من إنشائه جمع كل الكنائس من المذاهب المسيحية المختلفة فى تنظيم واحد ينهض هو الآخر بدوره فى وضع القِيَم المسيحية فى مواجهة الدعاوى الماركسية، وكان أكثر الخوف ذلك الوقت على جنوب أوروبا، خصوصا فرنسا وإيطاليا واليونان، ففى هذه البلدان جميعا بدا التحدى الشيوعى غالبا، وبدا أن الديمقراطية نفسها قد تصبح وسيلته إلى بلوغ السُلطة، ولم يَعُد هناك خط دفاع قادر غير الدين مع وجود خط دفاع خفى هو وكالة المخابرات المركزية الأمريكية، ونعرف الآن أنها «دفعت» و«زَوَّرَت» و«قتلت» لكى تمنع اليسار من الوصول إلى مواضع القرار فى باريس وروما وأثينا (وغيرها).
وفى نفس الوقت الذى كانت فيه «العسكرية» الأمريكية تحاول إنشاء حلف إسلامى واسع من كراتشى إلى القاهرة إلى أنقرة فإن «الدبلوماسية» الأمريكية وضعت ثقلها وراء مجلس الكنائس العالمى.
وبالفعل فإن مجلس الكنائس العالمى حاول أن يمد نشاطه إلى الكنيسة المصرية وكان ذلك إحياء جديدا لجهود تبشيرية سبقت لكن الكنيسة القبطية المصرية كانت واعية بتراثها، حريصة على استقلالها.
وبرغم محاولات لاستغلال تَوَجُّه مصر العربى فى منتصف الخمسينيات، ثم قيام الوحدة المصرية السورية قرب نهايتها وتأويل ذلك لدى البعض إسلاميا فإن الكنيسة المصرية الوطنية حشدت قوتها وواجهت. (ولا يهم هنا أن نفرا من الأقباط حاولوا عَلَنا وسِرّا ومن مَقَرِّ جريدة طائفية إيقاظ النعرة الفرعونية عن تصميم وعمد ثم الترويج فى الداخل والخارج لاحتكار الفرعونية وحصرها فى الأقباط وحدهم، ثم جنوح البعض بعد ذلك إلى تصرفات وصِلات جانبها الصواب.
وتَشَجَّعَت هذه التصرفات والصِلات فى عقاب الانفصال بين مصر وسوريا، وكان أن تَقَرَّرَ تَزَيُّدا فى الحِرص دون خطر حقيقى فيما أظن وضع بعض المُتَوَرِّطين فيها تحت الحراسة، ومن سوء الحظ أن الإجراء طال غيرهم بالتبعية.
(وكان هناك بين الأقباط من انطبقت عليهم الإجراءات الاشتراكية بقواعدها شأن غيرهم من المسلمين وكان هناك من وَصَلَت إليهم الإجراءات باعتبارات الأمن من منظور المُختَصّين به).
وفى كل الأحوال فإنه بعد مرحلة حافلة بالتطورات من السويس إلى دمشق، وجد «جمال عبدالناصر» أمامه بطركا قبطيا قادما من عمق الريف المصرى مستوعبا بالحِسِّ لحقائق مصر الاجتماعية وضروراتها. وهكذا فإنه فى أول مرة التقاه بعد أن جرى انتخابه وترسيمه، اتفق معه على خط اتصال مباشر يعطى للبطرك كما لشيخ الأزهر وقتها أن يطرق باب رئيس الدولة فى أى وقتٍ يشاء.
وكان «جمال عبدالناصر» قد أدرك بالتجربة العملية أن تجاور دينين (إلى جانب نهر واحد يعيش على ضفافه واعتمادا على مياهه أصحاب وَطَن واحد) هو مسئولية رئاسة الدولة، لأن ترك الأمر لجهاز الدولة العادى قد لا يكون كافيا فى ظروف غير عادية (ومن الملاحظ أن نفس الشيء حَدَثَ فى ذات الفترة بالنسبة لنهر النيل، فقد كان مشروع إنشاء السد العالى تحت الإشراف المباشر لرئاسة الدولة).
وكذلك قامت علاقة من نوع خاص بين «جمال عبدالناصر» وبين «كيرلس» السادس، وكانت علاقة مباشرة لا يدخلها وسطاء ولا تداخلها حساسيات. وربما أن الأمر احتاج مرة واحدة إلى اقتراب غير مباشر بين الاثنين.
ففى ذات يوم من سنة 1964 جاء لزيارتى فى «الأهرام» صديق كريم ينتمى إلى أسرة قبطية بارزة هو الأستاذ «أمين فخرى عبدالنور» (ابن السياسى القبطى الكبير «فخرى عبدالنور» الذى كان أول من ذهب إلى «سعد زغلول» عند تشكيل «الوفد» يطالب بحق الأقباط ودورهم فى العمل الوطنى من أجل الاستقلال).
وكان «أمين فخرى عبدالنور» يسألنى «إذا كنت أقابل الأنبا صمويل يحمل إلىَّ رسالة من البطرك كيرلس»، وبالطبع رَحَّبْت وفى غد جاء الأنبا «صمويل» ومعه «أمين فخرى عبدالنور» وكانت رسالة «كيرلس» السادس سؤالا رأى البطرك أن يوجهه إلى الرئيس «جمال عبدالناصر» عن طريقى وليس مباشرة منه إليه وذلك حتى لا يؤدى طرح السؤال مباشرة إلى إحراج للطرفين إذا كان للرئيس رأىٌ مخالفٌ.
كان مؤدى السؤال كما شرحه الأنبا «صمويل» هو أن الكنيسة المصرية وهى مقبلة على الاحتفال بألفية ثانية بعيد ميلاد السيد المسيح تفكر فى المستقبل، ومع ظهور مجتمعات قبطية جديدة خارج مصر، فإن البطرك يحلم بإنشاء كاتدرائية تكون فى مقام الكرازة المرقسية بين كنائس العالم الكبرى. والمطلب الذى يريده البطرك من الرئيس هو:
السماح ببناء كاتدرائية (فهذه مسألة أضخم من بناء كنيسة عادية) والتصريح من المستوى الأعلى مطلوب هنا بصفة خاصة (مع العلم أنه بالنسبة لبناء الكنائس العادية فإن «جمال عبدالناصر» كان قد أعفى البطركية من تصريح وزارة الداخلية وذلك فى حدود بناء 25 كنيسة كل سنة، والبطرك هو الذى يملك سلطة التصريح بها، وتَقبَل منه وزارة الداخلية بغير أن تتعلل بأحكام الخط الهمايونى الشهير!)
بعد ذلك فإن البطرك عنده مشكلة أخرى هى مشكلة التمويل، فبناء الكاتدرائية سوف يحتاج إلى مبالغ كبيرة، والكنيسة تواجه أزمة بين أسبابها أن بعضا من أغنياء الأقباط المستعدين للتبرع أصابتهم القرارات الاشتراكية (سنة 1961)، ومن ثم فقد أصبح عذرهم أمام البطرك ظاهرا. ومن ناحية ثانية فإن أوقاف الكنيسة سَرى عليها ما سَرى على الأوقاف كلها، ولم يعد هناك من ريعها ما يغطى ولو جزءا من تكاليف بناء الكاتدرائية.
وأخيرا فإن البطرك لا يرى بُدّا من طلب مساعدة الدولة، لكنه فى نفس الوقت يدرك أن مساهمتها مباشرة فى بناء كاتدرائية مسيحية مسألةٌ دقيقة ! وخلاصة الرسالة فى النهاية أن البطرك حائر: يريد أن يكلم الرئيس فى ذلك كله لكنه فى نفس الوقت لا يريد إحراجه لا أمام المسلمين ولا أمام الأقباط.
ونَقَلْتُ رسالة البطرك إلى الرئيس، وسألنى «جمال عبدالناصر»: «ما هى الحدود المالية لطلب البطرك ؟» ولم أعرف جوابا، لأن الأنبا «صمويل» كان مُكَلَّفا بالسؤال ولم يكن مُكَلَّفا بما بعده. وبعد أيام قليلة ذهبت مع الأنبا «صمويل» إلى لقاء مع البطرك «كيرلس» السادس فى مَقَرِّه.
وكان البطرك محرجا فى تحديد ما يطلبه، وتشاور مع الأنبا «صمويل» أمامى بالظنون عن التكلفة، وكان رده أنها «ما بين مليون ونصف إلى مليونين من الجنيهات»، وأكثر من ذلك فإن البطرك أمر سكرتيره فجاءه بمجموعة من الرسوم الهندسية لمشروع الكاتدرائية، وكان «كيرلس» السادس من تشوقه إلى بناء كاتدرائية قد كلف بتصميمها فعلا عددا من أكبر المهندسين الأقباط فى مصر.
وحين حملت اقتراح البطرك وما ألحقه من تصميمات إلى «جمال عبدالناصر» فى بيته مساء نفس اليوم، كان قد توصل إلى حَلٍّ عملى. كان تقديره أنه قد يكون من الصعب أن يقرر مجلس الوزراء إنشاء كاتدرائية قبطية من ميزانية الدولة، فهذه سابقة قد تجر وراءها بالنسبة للمسلمين والأقباط ما لا داعى له من التباس. لكنه نظرا للضرورات وهى تتعلق بروابط المجتمع الوطنى فإن إنشاء الكاتدرائية بمؤازرة الدولة مطلوب. وكان الحل أن «جمال عبدالناصر» دعا رئيس مؤسسة البناء والتشييد (وهو يومئذ المهندس «على السيد») وطلب إليه وعَزَّزَ طلبه بتوجيه رئاسى مكتوب أن تتولى شركات المقاولات التابعة لمؤسسته، كل فى اختصاصها الفنى، بناء وتجهيز الكاتدرائية، ثم أن تضيف التكاليف إلى حساب عمليات أخرى يقوم بها القطاع العام وقد كان.
وحضر «جمال عبدالناصر» احتفال بناء الكاتدرائية، ولم أستطع حضور الاحتفال لداعى سفرٍ مفاجئ، وكان أن بعث البطرك باثنين من كبار أساقفة الكنيسة أحدهما الأنبا «صمويل» والثانى الأنبا «تاوفيلس» لإقامة قداس بركات فى بيتى ولأولادى، ومع القداس صفحة من كتاب كنسى عتيق، وقطعة نسيج قبطى قديم، كلاهما داخل حافظ من زجاج وقال لى البطرك فيما بعد إن «الصلاة مهما اختلفت الطقوس دعاء لرب واحد ساكن فى قلوب كل المؤمنين».
وربما أن الحقائق كانت تَتَطَلَّب ما هو أبقى وأعمق من علاقة وثيقة بين بطرك ورئيس لكنه لسوء الحظ أن معارك 23 يوليو المستمرة جعلتها تترك وراءها فراغات مفتوحة!
4- السادات وشنودة
فى بداية رئاسته ترك الرئيس «السادات» قضية «تجاور دينين فى وطن واحد» لجهاز الدولة العادى، وبالذات وزارة الداخلية، وقد شغلها السيد «ممدوح سالم» ابتداء من مايو سنة 1971 وظَلَّ فيها حتى عهد بها إلى أحد مساعديه عندما كُلِّفَ هو بتشكيل الوزارة فى مايو سنة 1975.
وكان «ممدوح سالم» رجلا يتمتع بمزايا كثيرة، لكن طبيعة اهتمامه ب «عامل الأمن» قبل أى اعتبار دفعه دون تَعَمُّدٍ إلى صدام مع البطرك الجديد الذى أصبح لقبه الرسمى «البابا» بعد إنشاء الكاتدرائية. ومع أن السيد «ممدوح سالم» كان أكبر المُحَبِّذين لانتخاب الأنبا «شنودة» (البابا الجديد) فإنه ما لبث أن غَيَّرَ رأيه لأن البابا «شنودة» كانت له نظرة فى إدارة شئون كنيسته يصعب أن تَتَحَكَّم فيها كلها قيود أمن.
والحقيقة أن البابا الجديد كان أكثر الناس مُلاءمة لمكانه وزمانه، ولعل دوره على نحوٍ ما استعاد دور «مكرم عبيد» رغم اختلاف خلفيته وشخصيته وموقعه. كان «مكرم عبيد» قد وصل إلى روح الحضارة العربية (للعرب المسلمين والمسيحيين) عن طريق دراسة الدين وحفظ القرآن، وكان الراهب «شنودة» قد وصل إلى نفس النتيجة من باب الأدب، وكانت اللغة مدخل عقله إلى قناعته، كما أن الشِعر كان المدخل إلى قلبه. وفى حين أن «مكرم عبيد» كان كتلة من الأعصاب مشحونة طول الوقت، فإن البابا «شنودة» كان هادئا فى حساباته ممسكا بزمام أعصابه دائما.
وكانت بداية المتاعب بين الرئيس «السادات» والبابا «شنودة» هى السياسة الجديدة التى فَكَّرَ فيها وأشرف على تنفيذها المهندس «عثمان أحمد عثمان» وهو الصديق الذى راح يظهر بإلحاح فى الدائرة القريبة من الرئيس «السادات»، وكان مؤدى سياسة «عثمان» استعمال شباب الجماعات الإسلامية فى التصدى لجمهور الشباب القومى (وفيه الناصرى) فى الجامعات.
ومع استمرار مظاهرات الطلبة بسبب فَوات «عام الحسم» (1971) كما سماه الرئيس «السادات» دون حسم فإن مطلب التصدى تَحَوَّل إلى مطلب ردع، وكان أن ظهرت العصى والجنازير وسكاكين قرون الغزال. وبالطبع فإن نزعة العنف لم تقتصر على الجامعة وإنما تَسَرَّبَت وسالت إلى المجتمع الواسع خارجها، وكانت وزارة الداخلية فى حساباتها «لاتجاهات الشارع» قد أصبحت أكثر تَوَجُّسا، وكان أن اتخذت موقفا أكثر تشدُّدا فى عملية ترميم وإنشاء الكنائس مُتَزَمِّتة أكثر من اللازم حتى فى تطبيق الخط الهمايونى، والهدف بالطبع مجاراة الجماعات الإسلامية أو مداراتها مع اعتبارها فى ذلك الوقت ضمن احتياطى النظام ضد مُناوِئيه.
وتَوَتَّرَت الأحوال فى «الخانكة» حين حَدَث ما اعتُبِر عدوانا بالحريق والهدم على كنيسة فى «أبو زعبل»، ثم قرر البابا «شنودة» أن يقود موكب أساقفة سَيْرا على الأقدام إلى الكنيسة المعتدى عليها لإقامة الصلوات فيها. وأحس وزير الداخلية أن البابا صديقه القديم يَتَحَرَّش بوزارته ويَتَحَدّاها أن تَتَعَرَّض له ووراءه صفوف من القادة الروحيين لكنيسته! كنت فى ذلك الوقت نوفمبر 1972 ما زلت من أقرب الناس سياسيا إلى الرئيس «السادات».
وظهر يوم 10 نوفمبر 1972 اتصل بى الرئيس «السادات» هائجا من اللحظة الأولى يقول لى «إنه لم يَعُد يطيق صبرا على شنودة» (يقصد البابا «شنودة»)، فهو فى رأيه يتصرف وكأن الدولة غير موجودة، أو كأنه يريد أن يصبح دولة فوق الدولة، وهو بذلك سوف يقود «البلد» إلى فِتنة طائفية، وقد قرر هو («السادات») أن يتحمل مسئوليته وأن يضع «شنودة» فى حجمه الطبيعى، ولذلك فإنه سوف يذهب أول الأسبوع القادم إلى مجلس الشعب ويُفَجِّر «الموضوع الطائفى» ويطلب إلى المجلس أن يتحمل مسئوليته وأن يتخذ من الإجراءات ما يكفل وضع الأمور فى نصابها و «البلد» مقبل على معركة ثم طلب الرئيس «السادات» منى أن أكتب له الخطاب الذى يعرض به الموضوع على مجلس الشعب وأن أضمنه ما اقترح أن يتخذه المجلس من إجراءات أشار إلى بعضها.
ورَجَوْتُه أن يَتَمَهَّل فذلك موضوع لا يُعالَج بالحِدَّة، ثم إنه لا يُعالَج ب «الإجراءات»! واحتَدَّ الرئيس «السادات» قائلا إنه «لا يستطيع أن يجلس على كرسيه وتحته لغم موقوت كما كان يفعل جمال» (يقصد «جمال عبدالناصر») ثم يستطرد: «جمال كان له بال طويل فى الصبر، أما أنا فلا أستطيع، ولا بد لمجلس الشعب أن يَجِدَ حلا حاسما للموضوع»، وهو على أى حال «ذاهب» «ذاهب» إلى المجلس سواء كان فى يده خطاب مكتوب أو لم يكن عنده إلا ما يخطر على باله لحظة يبدأ حديثه أمام المجلس، مضيفا: «إننى سوف أفَجِّر المشكلة برمتها وليكن ما يكون»! ورَجَوْتُه أن يأذن لى بالمرور عليه فى بيته فى الجيزة.
وعندما دَخَلْتُ عليه أحسست من اللحظة الأولى أنه مُعَبَّأٌ على الآخر بحتمية «التفجير» سواء كان مُحَرِّك التعبئة أمنيا، أو كان مُحَرِّكُها من أصدقائه المقربين. ولساعتين حاولت أن أطرح عليه وجهة نظر أخرى ملخصها «مسئولية رئاسة الدولة مباشرة» عن «جوار دينين على أرض وطن» (وبمثل «تَعَلُّق حياة شعب بمجرى نهر واحد»).
وأخيرا وبعد عناء تَوَصّلنا إلى حَلٍّ وسط: بدل أن يتكلم هو فى مجلس الشعب يبعث إلى المجلس بخطاب عن «الموضوع»، وبدل أن يقوم هو بعملية «تفجير» أمام المجلس يَطلُب من هذا المجلس أن يقوم بتقصى الحقيقة فيه والعودة إليه بتقرير عنه. وكتبت له ونحن بعد جلوس فى بيته مشروع الخطاب الذى يبعث به إلى المجلس، ووافق عليه.
وصباح اليوم التالى دَعَوْتُ إلى مكتبى الدكتور «جمال العطيفى» وهو المستشار القانونى ل«الأهرام» وفى نفس الوقت وكيل مجلس الشعب (وقد عُيِّنَ فيما بعد وزيرا للإعلام). وحكيت ل«جمال العطيفى» ما انتهى إليه لقائى فى اليوم السابق مع الرئيس «السادات»، وأحطته علما بأن المجلس سوف يتلقى اليوم أو غدا خطابا من رئيس الجمهورية يطلب إليه «تشكيل لجنة تحقيق برلمانية» لتقصى الحقائق وتقديم تقرير عنها.
وكان تعليق «جمال العطيفى» على الفور أنه «لا يستطيع أن يرى ماذا يستطيع المجلس أن يفعل فى هذا الموضوع وفى هذه الظروف ؟» وقلت له إن «ذلك رأيى أنا الآخر» لكن ما يمكن «تَوَقُّعُه» من المجلس هو فسحة وقت (أسبوع أو أسبوعين على أكثر تقدير) تخدم هدفين: من ناحية تنفيس البخار المكبوت فى البلد نتيجة لحوادث لم يتداركها فى الوقت المناسب أحد، وإنما تُرِكَت لتتراكم ولتتحول إلى قنبلة موقوتة (على حَدِّ تعبير الرئيس «السادات»).
ومن ناحية ثانية إتاحة فرصة لمناقشة مسئولة فى إطار دستورى واضح، قد يستفيد منها الرئيس ويشعر معها أن هناك من يشاركه المسئولية فى مواجهتها، وذلك فى نفس الوقت يساعده على أن يستجمع أفكاره ويعيد تركيزها، ويتصرف بسلطته وهى وحدها القادرة على المواجهة السليمة لهذا الموضوع، سواء بالاستباق المستنير لوقائعها، أو بالتدارك اليقظ لتداعياتها.
ولم أكن أحتاج إلى شروحات تطول مع «جمال العطيفى» لأن علاقة صداقة وعمل فى «الأهرام» نشأت واستمرت سنوات قبلها وجعلتنا معا فى مواجهة هذا النوع من القضايا العملية المباشرة على موجة واحدة. وقد سألنى دون تَرَدُّد لا تسمح به ظروف هذا النوع من المشاكل «ما إذا كنت أرى أن يكون هو المسئول عن هذه اللجنة البرلمانية باعتباره وكيل مجلس الشعب ؟»
وكان ذلك فى ظنى ترتيبا مثاليا لو أمكن تدبيره، وطلب «جمال العطيفى» أن أساعد فى «الترتيب» باتصال مع السيد «حافظ بدوى» رئيس مجلس الشعب وقتها بعد أن يكون هو قد تولى شرح التفاصيل له فور أن يتلقى مكتبه رسالة الرئيس «السادات». وكذلك كان. وصباح يوم 14 نوفمبر 1972 صَدَرَ «الأهرام» وعلى صَدْرِ صفحته الأولى خَبَر كتبته بنفسى، ونصه كما يلى: «علم مندوب «الأهرام» أن الرئيس أنور السادات قد طلب إلى مجلس الشعب تشكيل لجنة برلمانية خاصة للتحقيق فى بعض المحاولات التى جرت أخيرا لافتعال فتنة طائفية لا يمكن أن يستفيد منها الوطن أو المواطنون فى أى وقت فضلا عن هذا الوقت بالذات.
وكانت وجهة نظر الرئيس السادات أن هناك وسيلتين لمعالجة هذا الموقف: الوسيلة التقليدية وهى محاولة تَكَتُّم الأمور والتغطية عليها بالحلول الوسط.
والوسيلة الثانية هى وسيلة المواجهة ووضع الحقائق أمام جماهير الأمة الواعية كلها لكى تستطيع أن تحكم وتفرض على الجميع أن يلزموا حدود مسئولياتهم تجاه الوحدة الوطنية.
وقد كان آخر المحاولات التى دعت إلى تشكيل لجنة التحقيق البرلمانية، هو حادث فى «الخانكة»، احترق فيه سقف غرفة فى مقر جمعية «أصدقاء الكِتاب المقدس».
وأدت تطورات هذا الحادث إلى مضاعفات وردود أفعال مختلفة، برغم أنه كانت هناك محاولات لا شك فى صدقها لضبط الأعصاب والحرص على كل المقدسات الوطنية التى يلزم الحرص عليها.
وكان الرئيس السادات قد تلقى برقيات عديدة من أهالى «الخانكة»، ومن عدد من رجال الدين، وكان بعد ذلك اتصاله بالسيد حافظ بدوى رئيس مجلس الشعب. وقد اتخذ مجلس الشعب قرارا، نصه كما يلى: «قرر مجلس الشعب تشكيل لجنة لتقصى الحقائق حول الأحداث الطائفية التى وقعت فى مركز الخانكة، والاطلاع على تحقيقات النيابة وإعداد تقرير للمجلس عن حقيقة ما حدث».
وقد تشكلت اللجنة برئاسة الدكتور جمال العطيفى وكيل المجلس، وعضوية السادة: محمد فؤاد أبوهميلة، وعبدالمنصف حزين، وكمال الشاذلى، وألبرت برسوم، والدكتور رشدى سعيد، ومحب استينو.
وعلم مندوب «الأهرام» أن لجنة التحقيق البرلمانية سوف تستمع إلى أقوال جميع المسئولين بغير استثناء. وستبدأ اللجنة بسماع تقرير السيد ممدوح سالم نائب رئيس الوزراء ووزير الداخلية، ثم جميع رجال الأمن فى المنطقة، ثم كل الذين اتصلوا بالوقائع، ثم تَطَّلِع اللجنة على تحقيقات النيابة العامة للموضوع، وذلك فى سبيل التوصل إلى الحقيقة وإعلانها للمواطنين.
وجاءنى الدكتور «جمال العطيفى» بعد أسبوع يقول إنه اللجنة عَقَدَت عدة اجتماعات للاستماع ولتقصى الحقائق، وهو يرى أن الاستماع والتقصى لا يمكن أن يزيدا أكثر من أيام قليلة أخرى، وإلا فإن المسائل قد «تفك»، وذلك لا يجب السماح به. وكان «جمال العطيفى» حائرا فى كيفية كتابة تقرير اللجنة ردّا على إحالة الرئيس، ولم يكن هناك حَلٌّ إلا إعادة الأمر إلى رئاسة الدولة «باعتبار أن الدستور أناط بالرئيس أن يسهر على حماية الوحدة الوطنية»، وكانت تلك بالفعل هى العبارة المفتاح فى تقرير اللجنة (مع ملاحظة أن تقرير اللجنة حوى فوق العبارة المفتاح أفكارا واقتراحات ما زالت حتى هذه اللحظة تستحق الاهتمام وتستوجب إعادة التقدير حتى رغم انقضاء ثمانية عشر عاما على كتابته).
ولم أفاجأ حين اتصل بى الرئيس «السادات» تليفونيا صباح العشرين من نوفمبر يقول لى، ضاحكا هذه المرة وليس مُسْتَفَزّا: «إن المجلس أعاد لى الكرة مرة أخرى».
وكان ردى أن تلك طبائع الأمور، فليس فى هذه الساحة ولا ينبغى أن يكون هناك لاعب آخر، بمعنى أن الكل يستطيع أن يتفهم وأن يقترح وأن يساعد وأن يفيد، لكن «جوار الدينين على أرض الوطن الواحد» هى ومياه النيل مسئولية رئاسة الدولة قبل كل الأطراف.
واستأذنت الرئيس «السادات» مرة أخرى أن أمُرَّ عليه فى بيته، وجلسنا ساعات طويلة نناقش ماذا بعد ؟ وماذا يصنع بتقرير اللجنة ؟ وتوصلنا إلى أهمية أن تكون خطوته الأولى بزيارتين: أولاهما للجامع الأزهر يلتقى مع شيخه ومع هيئة كبار العلماء، والثانية لدار البطركية يلتقى مع بابا الكرازة المرقسية ومع المجمع المقدس بأكمله، وفى الاجتماعين يستطيع الرئيس أن يوجه وأن يدعو إلى تلطيف الأجواء وتخفيف درجة الاحتقان، من باب الحقيقة الوطنية والتاريخية، وليس من باب الكلام الشائع والساذج عن «التسامح» وعن «السماحة» إلى آخره !
(وفى نفس الجلسة وافَقَ الرئيس «السادات» بعد تَرَدُّد على إعادة العمل بالترتيب القديم بين «جمال عبدالناصر» والبابا «كيرلس» السادس، وبحيث يكون فى سلطة البابا، ودون عراقيل بسبب الخط الهمايونى، أن يُصَرِّح ببناء خمس وعشرين كنيسة كل عام).
وبعد أسبوعين فى شهر ديسمبر قام الرئيس «السادات» بالفعل بالزيارتين. وقد طلب إلىَّ أن أكون فى انتظاره ليقص علىَّ النتائج، ودخل الرئيس «السادات» من باب بيته إلى البهو وإلى الصالون الكبير وكنت فى انتظاره جالسا مع قرينته السيدة «جيهان»، وكانت هى الأخرى قلقة تريد أن تعرف كيف سارت الأمور، وكان الرئيس «السادات» فى أحسن أحواله وهو يحكى بطريقته المسرحية (أحيانا) ويقول: «فى هيئة كبار العلماء مشى كل شىء كما هو منتظر. فى البطركية أثبت «شنودة» أنه ناصح أكثر مما قَدَّرت».
وأضاف الرئيس «السادات»: «حاولت استفزازه مُتَعَمِّدا. نظرت إلى ساعتى أثناء اجتماعنا وأعضاء المجمع المقدس كله حولنا وقلت مُوَجِّها كلامى له: «لقد حان موعد صلاة الظهر وأريد سجادة صلاة».
وهرع شنودة بنفسه إلى غرفة مجاورة وجاء لى بسجادة صغيرة فَرَشَها بنفسه وسط مكتبه وخرج الكل من القاعة، ولكن شنودة لم يخرج وإنما وقف بعيدا وقد شَبَكَ يديه أمام صدره فى خشوع وانتظرنى حتى أتم صلاتى... ورأيته بركن عينى وحاولت تقدير رد فعله... ».
وكانت السيدة «جيهان» هى التى سبقت بأول ملاحظة فى التعقيب على ما قال زوجها، وسألته بحيرة: «غريبة يا أنور... وليه تِسْتَفِزُّه؟». وقال لها «أنور السادات» بطريقته: «ياه يا جيهان لن تفهمى فى السياسة طول عمرك. أردت استفزازه لكى تَظهَر خفايا مشاعره».
ثم أضاف: «لكنه ناصح وغويط». وسَألتُه إذا كان قد أبلغه بالعودة إلى اتفاق الرئيس «عبدالناصر» والبابا «كيرلس» ؟ ولم ينتظر الرئيس «السادات» حتى أكمِل سؤالى، وقال: «وافقت له على ضِعف عَدَد الكنائس التى اتفق عليها جمال مع كيرُلُّس» ! وعندما لاحظ دهشتى استطرد يقول: «شنودة ظَلَّ طول الوقت يقول لى أنت رئيسنا وأنت زعيمنا وأنت رَب العائلة».
ومن سوء الحظ أن الأمور لم تلبث أن تعقدت حتى جاء يَومٌ سنة 1978 سمعت فيه وكنت فى زيارة عمل إلى روما خطابا عاما للرئيس «السادات» يروى فيه تفاصيل إضافية عن خلافاته القديمة والجديدة مع البابا «شنودة»، ثم وَصَلَ إلى نقطة من خطابه قال فيها إنه كان على وشك اتخاذ إجراء ضده لولا أنه تلقى «خطابا من فتاة صغيرة رَجَتْهُ أن يطيل صبره، وتَمَنَّت لو كان فى استطاعتها أن تأخذ من عمرها وتضيف إلى عمره»، وكان أن تَمَهَّلَ فى اتخاذ ما انتوى من إجراء لكنه كما قال «تَمَهَّلَ فقط وقد يعود إلى ما فكر فيه إذا لم يكف البابا شنودة عما يفعله».
وأدهشنى خطاب الرئيس «السادات» خصوصا فيما أعلن أنه ينوى اتخاذه من إجراءات، وحين عُدتُ إلى القاهرة بعد أيام سألت الأستاذ «سيد مرعى» وهو الصديق العزيز المشترك وقتها بين الرئيس «السادات» وبينى عن الأمر، وفوجئت به يقول لى: «إن الرئيس كان ينوى عزله»! وتساءلت مندهشا: «وهل يملك عزله؟».
وكان رد «سيد مرعى»: «كان سيعملها باستفتاء عام»! واشتدت دهشتى وتساءلت: «استفتاء عام على منصب البطرك للشعب المصرى كله أم لطائفة منه فقط ؟» !
وقال «سيد مرعى»: «لا.. كان سيعرضه على الجميع، لكنه لم يكن ينوى طرحه على الناس بمنصب البطرك تحديدا كان قد تلقى فتوى من بعض أساطين الكنيسة من أصدقائه بأنه يكفيه أن يسحب المرسوم الرئاسى الذى اعتمد نتيجة انتخاب البطرك بواسطة المجمع المقدس، لكى يصبح وضع البابا غير قانونى» وهكذا فإن سَحب مرسوم رئاسى هو المقرر له أن يكون سُؤال الاستفتاء!
وسألته عمن قدم للرئيس هذه الفتوى وهى مؤدية فى رأيى إلى كارثة، ولم يجب «سيد مرعى» مباشرة، وأحسست أنه يوافق على رأيى، وكان من حُسْن حظ الجميع أن خطاب الفتاة الصغيرة التى تَطَوَّعَت على الورق أن تأخذ من عمرها وتعطى الرئيس «السادات» قد أنقذ الموقف قبل وصوله إلى نقطة اللا عودة. لكنه من سوء الحظ أن تَطَوُّع الفتاة الصغيرة بسنين إضافية من العمر لم يجد نفعا، فما هى إلا سنوات ثلاث إلا وكان رصاص شباب إسلامى قد أصاب الرئيس «السادات» فى مقتل !
وكان بعد ذلك فى سبتمبر 1981 أننى سمعت فى سِجْنِ «مزرعة طُرَة» مع مئات غيرى من المُعتَقَلين أن إجراءات «ثورة» سبتمبر (!!) التى أعلنها الرئيس «السادات» على معارضيه جميعا مرة واحدة طالت ضِمن مَن طالت بابا الكرازة المرقسية نفسه، وأن البابا «شنودة» حاله كحالنا الآن نحن فى سِجْن «طُرة» وسجنه دير وادى النطرون. وكانت رئاسة الدولة بعد الرئيس «السادات» هى بنفسها التى تقدمت تفتح باب الدير وباب السِّجْن لكى تنتهى حالة احتقان خطرة كان يمكن أن تؤدى إلى ما هو أبعَد من الاحتقان !
من تلك الأيام تَدَفَّقَت مياه كثيرة فى النهر الواحد الذى يعيش على ضفافه ويتجاور دينان لكن مياه النهر حملت بعد ذلك بُقَعَ دَم. وفى «الكشح» سنة 1999 كان الدَم بُقعة كبيرة على سطح الماء، وهذه علامة بالغة الخطورة.
والشاهد الآن أن أحدا لا يحتاج إلى لجنة تحقيق برلمانية أو حتى محضر تحقيق بوليسى لكى يدرك مدى خطورة العلامة. وفى كل الأحوال فإن الحقائق الواضحة أمام الكل لا تترك مجالا للاجتهاد: فهناك أجواء مشحونة ومُعَبَّأة بأسباب تَتَعَدَّد دواعيها: اجتماعية اقتصادية سياسية فكرية.
وهناك مناخ تحفزت فيه عوامل الانفلات والانفجار. وهناك حقيقة سقوط 23 قتيلا من المواطنين: 22 منهم من الأقباط وواحد فقط من المُسْلِمين وهى قرينة تشير إلى خطأ ما فى مكان ما، مهما قيل إن التدقيق فى مسار الوقائع ضرورى ومطلوب.
وفى حالة من الفوضى تُشارِك فيها الأقلام والحجارة والسيوف، وتفتى فيها صفحات الجرائد وشاشات التلفزيون وأجهزة الراديو، ومنابر المساجد وأجراس أبراج الكنائس فإن الأمور فى النهاية تحتاج إلى صَوْتٍ يقول: مَهْلا!
ثم يكون على الجميع أن يخفضوا أصواتهم ولو مؤقتا ويتذكروا أن سُلطة الدولة العليا هى المُكَلَّفة بالمسئولية قبل غيرها، وهى القادرة على أن تلحق، والأفضل أن تسبق.
بقى أنه ما دام هذا الحديث كله حديث ضمير فإن هناك ملاحظة لا بد لها أن تقال، وهى ملاحظة تعبر ضفاف النهر الواحد، وتتخطى صحارى الوطن المصرى، واصلة بقلق حقيقى إلى المشرق العربى وهى ملاحظة تتعلق بمسيحيى المشرق (فى فلسطين، ولبنان، وسوريا، والعراق، وحتى تركيا). هناك ظاهرة هجرة بينهم يصعب تحويل الأنظار عنها، أو إغفال أمرها، أو تجاهل أسبابها، حتى وإن كانت الأسباب نفسية تتصل بالمناخ السائد فى المنطقة أكثر مما تتصل بالحقائق الواقعة فيه !
وأشعر ولا بد أن غيرى يشعر كذلك بأن المشهد العربى كله سوف يختلف إنسانيا وحضاريا وسوف يصبح على وجه التأكيد أكثر فقرا وأقل ثراء لو أن ما يجرى الآن من هجرة مسيحيى المشرق تُرِكَ أمره للتجاهل أو التغافل أو للمخاوف حتى وإن لم يكن لها أساس.
وظنى أن جموع المسلمين فى الأمة مطالبة أكثر من أى وقتٍ مضى بأن تعرف وتُدرك بيقين أهمية مواريثها، وحيوية تَنَوُّع مصادر ثقافتها، وخصوصية التركيبة الخلاقة والمبدعة فى تشكيل حياتها.
أى خسارة لو أحَسَّ مسيحيو المشرق بحق أو بغير حق أنه لا مستقبل لهم أو لأولادهم فيه، ثم بقى الإسلام وحيدا فى المشرق لا يؤنس وحدته غير وجود اليهودية الصهيونية بالتحديد أمامه فى إسرائيل؟